الأيّام تـمـر
الحمد لله الذي يفعل ما يشاءُ ولا يفعلُ ما يشاءُ غيرهُ، الحمد لله كما يُحبُّ أن يُحمَد... ربِّ صلِّ على محمد وآله الطاهرين.
إعلمْ يا عزيزي، حفِظك الله جلَّ جلالُه لصلاحك، وهداك لفلاحك، أنَّ اليومَ الذي أنت فيه، يومٌ جديد، وأنك عليه شاهد، وهو عليك شهيد... ولن تلقاهُ إلى يوم القيامة...
ولعلَّك لا تعملُ فيه، ولكنَّه يَعملُ فيك، ويُسجِّلُ عليك أقوالَكَ وأعمالَكَ، بل يُنقِضُ بمروره يوماً من أيام حياتك، وهكذا تِباعاً حتى لا يُبْقى لك شيئاً...
أيها الحبيب، إعملْ في يومك الذي أنت فيه، واستغلَّ ما فيه من الصحة والعافية والوقت والشباب والفراغ والهمَّة والقُوة... خاصة في هذا الزمان الذي يتراكضُ الناسُ فيه على تأمين معاشهم من كهرباء وماءٍ ومالٍ وعلاج، حتى ضاقت الأوقاتُ، ونُزعت البركات... فترى الرجلَ له أكثر من عمل، ولا يرضى بحاله، وكان لأجدادنا عملٌ واحدٌ، يكتفون به ويزيدُ عليهم... ولعلَّ ربَّك تعالى يُوفِّقني لشرح ذلك فيما يأتي...
يا حبيبي: أُنظر إلى مَنْ ابتلوا في أجسادهم بمرض أو عاهة... وأذكر نعمةَ اللهِ عليك في الصحة... فإني عرفتُ إخواناً لي ولك من نُزَّال المستشفيات وأهلِ الإصابات وهم على حالةٍ دائمة من النجاسة والألم، لا يُحسنون تطهيراً لأبدانهم عند قضاء حاجاتهم، ولا يأنسون كما يحبون بوضوء ولا غسل... حتى باتوا يتحسَّرون على الأيام الخالية... فلا تنسان من دعائكم في أوقات الرجاء.
وأُنظر إلى مَنْ أُصيبوا في أعينهم... وأُذكر نعمةَ اللهِ عليك في نظرك وبصرك وقراءَتكِ واستعرض الجمالِ من حولك... وقد حُرم آخرون من ذلك، وتمنوا ما أنت فيه...
وأُنظرْ إلى ما سخَّر لك ربُّك من ماء، ومال، ووسائلِ اتصال وانتقال، ومنزل وزوجةٍ وأولاد وأمنٍ وفراغ وشباب وقوةٍ وعافيةٍ وسكينة... وأُذكرْ مَنْ حُرِم من ذلك، من فقراء المسلمين، وأهلِ الحاجة منهم، ومَنْ تهجَّر من بلاده، واستُضعفَ في عباده، ومَنْ تسلَّط عليه عدوٌ غاشم أو سلطانٌ ظَالم، ومَنْ انتُزع أولادُه من بين يديه، ومَنْ دُمِّرَ منزِلُه أمام عينه، ومَنْ لم يجدْ مقراً ولا مستقراً، ومَنْ ليس عنده مكانٌ آمنٌ يلجأ إليه...
أُذكر يا حبيبي كلَّ هؤلاء، واشكرْ ربَّك تعالى على ما أنت فيه... ولا تُفرِّط بيومك الذي أنت فيه، فإن كلَّ نَفَس من أنفاسك، يعدُمُ لحظةً من لحظات عمرك، ومولاك أميرُ المؤمنين (عليه السلام) يقول لك:
"وإنَّ غاية ً تنقُصُها اللحظة، وتهدِمُها الساعةُ، لجديرةٌ بقِصَرِ المدَّة، وإنَّ غائباً يحدوه الجديدان: الليلُ والنهار، لحرِيِّ بسرعة الأوبة... فتزوَّدوا في الدنيا، من الدنيا، ما تَحْرُزُونَ به أنفُسَكُم غداً".
واعلمْ أيها الحبيب: أنَّ الأيام التي مضت لن ترجع إليك ولو أنفقتَ مثلَ الأرضِ ذهباً، وأنَّ الأيام التي تأتي لا تدري أنت ولا حكامَ الدنيا وسلاطينَها إنْ كانوا يُدركونَها أم لا...
فما عليك إلا الذي أنت فيه من يومك هذا، وليس لك إلا ساعتُك التي تعيش، وكم من مدركٍ لأوَّل النهار، قامت بواكيه في آخره.
ورد في تُحَفِ العقول عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قولُه:
ــــــــ
"إلا أن الأيام ثلاثة: يومٌ مضى لا ترجوه، ويوم بقي لا بدَّ منه، ويومٌ لا تأمنه، فالأمس موعظة، واليوم غنمية، وغداً لا تدري مَنْ أهلُه..."
وعني وعنك قال أميرُ المؤمنين(عليه السلام):
" وما عسى أن يكون بقاءُ مَنْ له يومٌ يعدوه، وطالبٌ حثيثٌ يحدوه، ومُنزْعجٌ في الدنيا حتى يُفارِقَها رَغْماً، فلا تنافَسُوا في عزِّ الدُّنْيا وفخرها، ولا تَعْجبوا بزينتِها ونعيمِها، ولا تجزعوا من ضرَّائها وبؤسِها، فإنَّ عِزَّها وفخرَها إلى انقطاعِ، وإنَّ زينَتهَا ونعيمَها إلى زوال وضرّءَها وبؤسَها وإلى نفاد، وكلُّ مدَّةٍ فيها إلى انتهاء، وكلُّ حيٍّ فيها إلى فناء".
أيها الحبيب، سدَّدك الله جلَّ جلاله لخدمته والإخلاص لطاعته، إتَّعظْ مما ترى مِنْ حولك "فميِّتٌ يُبْكى، وآخَرُ يُعزَّى، وصريعٌ مُبْتلى، وعائِدٌ يعود، وآخَرُ بنفسه يجود، وطالبٌ للدنيا، والموتُ يطلُبُه، وغافِلٌ وليس بمغفولٍ عنه، وعلى أثر الماضي، ما يمضي الباقي".
ــــــــ
وقبل أن ينتهي يَومي هذا الذي أنا فيه، واستعداداً لصلاتي، أقول لنفسي ولك:
غداً إذا أدركتَه، وعند كلِّ يوم جديد، تذكَّر أنَّه: ما من يوم يأتي على ابن آدم، إلا قال ذلك اليوم: يابن آدم، أنا يوم جديد، وأنا عليك شهيد، فافعلْ بي خيراً، واعملْ فِيَّ خيراً، أشهد لك يومَ القيامة، فإنَّك لن تراني بعدها أبداً".
اللهم وإني أسألك موجباتِ رحمتك، وعزائمَ مغفرتِك، والنَّجاةَ من النار ومن كل بليَّة، والفوزَ بالجنَّة والرِّضوانَ في دار السلام، وجوارَ نبيِّكَ محمدٍ عليه وآله السلام، اللهم ما بنا من نعمة فمنك، لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوبُ إليك.