[font=Traditional Arabic][b][b]احر وصايا الرسول صلى الله عليه وسلم
بعد أن أتم النبي صلى الله عليه وسلم إبلاغ الرسالة ، وفُتحت مكة ،
ودخل الناس في دين الله أفواجاً ، فرض الله الحج على الناس وذلك
في أواخر السنة التاسعة من الهجرة ، فعزم رسول الله - صلى الله
عليهوسلم - على الحج ، وأعلن ذلك ، فتسامع الناس أن رسول الله
-صلى الله عليه وسلم - يريد الحج هذا العام ، فقدم المدينة خلق
كثير كلهم يريد أن يحج مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأن
يأتم به.فخرج من المدينة في الخامس والعشرين من ذي القعدة من
السنة العاشرة للهجرة ، وانطلق بعد الظهر حتى بلغ ذي الحليفة ،
فاغتسللإحرامه وادهن وتطيب ، ولبس إزاره ورداءه ، وقلد بدنه ،
ثم أهل بالحج والعمرة وقرن بينهما ، ويقال لها: حجة البلاغ، وحجة
الإسلام،وحجة الوداع، لأن النبي صلى الله عليه وسلم ودع فيها
الناس.والله أعلم.
اجتمع حوله مائة ألف وأربعة وعشرون أو أربعة وأربعون ألفاً من
الناس، فقام فيهم خطيباً، وألقى هذه الخطبة الجامعةفى عرفات:
(أيها الناس، اسمعوا قولي، فإني لا أدري لعلى لا ألقاكم بعد عامي هذا
بهذا الموقف أبداً). (إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم
هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا. ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت
قدمي موضوع، ودماء الجاهلية موضوعة، وإن أول دم أضع من
دمائنا دم ابن ربيعة بن الحارث ـ وكان مسترضعاً في بني سعد فقتلته
هُذَيْل ـ وربا الجاهلية موضوع، وأول ربا أضع من ربانا ربا عباس بن
عبد المطلب، فإنه موضوع كله).
(فاتقوا اللّه في النساء، فإنكم أخذتموهن بأمانة اللّه، واستحللتم
فروجهن بكلمة اللّه، ولكم عليهن ألا يوطئن فرشكم أحداً تكرهونه، فإن
فعلن ذلك فاضربوهن ضرباً غير مُبَرِّح،ولهن عليكم رزقهنوكسوتهن
بالمعروف). (وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به، كتاب
اللّه). (أيها الناس، إنه لا نبي بعدي، ولا أمة بعدكم، ألا فاعبدوا ربكم،
وصلوا خمسكم، وصوموا شهركم، وأدوا زكاة أموالكم، طيبة بها
أنفسكم، وتحجون بيت ربكم، وأطيعوا أولات أمركم، تدخلوا جنة ربكم).
(وأنتم تسألون عني، فما أنتم قائلون؟) قالوا: نشهد أنك قد بلغت وأديت
ونصحت.فقال بأصبعه السبابة يرفعها إلى السماء، وينكتها إلى الناس:
(اللهم اشهد) ثلاث مرات.
وبعد أن فرغ النبي صلى الله عليه وسلم من إلقاء الخطبة نزل عليه
قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ
الإِسْلاَمَ دِينًا} [المائدة: 3]، ولما نزلت بكي عمر، فقال له النبي صلى
الله عليه وسلم: (ما يبكيك؟) قال: أبكاني أنا كنا في زيادة من ديننا،
فأما إذا كمل فإنه لم يكمل شيء قط إلا نقص، فقال: (صدقت).
وخطب النبي صلى الله عليه وسلم يوم النحر ـ عاشر ذي الحجة ـ أيضاً
حين ارتفع الضحي.
وأعاد في خطبته هذه بعض ما كان ألقاه أمس
فقدروي الشيخان عن أبي بكرة قال: خطبنا النبي صلى الله عليه وسلم
يوم النحر، قال: (إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات
والأرض، السنة اثنا عشر شهراً، منها أربعة حرم، ثلاث متواليات،
ذو القعدة وذو الحجة والمحرم، ورجب مُضَر الذي بين جمادي
وشعبان). وقال: (أي شهر هذا؟) قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتى
ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، قال: (أليس ذا الحجة؟) قلنا: بلي؟ قال:
(أي بلد هذا؟) قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه
بغير اسمه، قال: (أليست البلدة؟) قلنا: بلي. قال: (فأي يوم هذا؟) قلنا:
اللهورسوله أعلم. فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، قال:
(أليس يوم النحر؟) قلنا: بلي. قال: (فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم
عليكم حرام كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، في شهركم هذا).
(وستلقون ربكم، فيسألكم عن أعمالكم، ألا فلا ترجعوا بعدي ضلالاً
يضرب بعضكم رقاب بعض). (ألا هل بلغت؟) قالوا: نعم، قال: (اللهم
اشهد، فليبلغ الشاهد الغائب، فَرُبَّ مُبَلَّغ أوعي من سامع).
وفي رواية أنه قال في تلك الخطبة: (ألا لا يجني جَانٍ إلا على نفسه،
ألا لا يجني جان على ولده، ولا مولود على والده، ألا إن الشيطان قد
يئس أن يُعْبَد في بلدكم هذا أبداً، ولكن ستكون له طاعة فيما تحتقرون
من أعمالكم، فسيرضى به).
وقد خطب في بعض أيام التشريق أيضاً، فقد روي أبو داود بإسناد
حسن عن سَرَّاءِ بنت نَبْهَانَ قالت: خطبنا رسول الله صلى الله عليه
وسلم يوم الرءوس، فقال: (أليس هذا أوسط أيام التشريق). وكانت
خطبته في هذا اليوم مثل خطبته يوم النحر، ووقعت هذه الخطبة عقب
نزول سورة النصر.
بعض مما تضمنته خطبة الوداع من مبادئ وتوصيات
1 -حرمة سفك الدماء بغير حق، وإقرارا للعدالةوالمساواة،حيث
المساواة بين الحاكم والمحكوم، وبين الغني والفقير، والقوي
والضعيف، والصغير ، والأبيض والأسود والأحمر، والرجل والمرأة،
في الحقوق الإنسانية.. فكل المسلم على المسلم حرام دمه وماله
وعرضه..
2- دفن الجاهلية ووضعها تحت الأقدام لحقارتها.. حيث وضع رسول
اللهأخلاق ومبادئ وقيم الجاهلية، وتصوراتها ومظاهرها وشعاراتها
وكبريائها وعنجهيتها، وعقائدها وأحكامها وأعرافها، كل ذلك وضع
النبي (صلى الله عليه وسلم) تحت قدمه..
3- الوصية بالنساء خيرا، و أنهن عوان (أي أسيرات) لا يملكون
لأنفسهن شيئا، فإن الإسلام أعطى للمرأة حقوقها ووصى بهاوجعلها
بنتا في بيت أبيها، وزوجة في بيت زوجها وهي سيدة ذلك البيت..
أعطاها حقها في الميراث، وكانت من قبل لا تأخذ شيئا.. جعل لها
كرامة وكانت من قبل تباع وتشترى.. وجعل لها رأيا ولميكن لها من
قبل رأي.. فهذا هو الإسلام جعلها مصانة في بيتها معززة في حياتها..
4 -التمسك بكتاب الله والاعتصام به فهو سبيل العزة والنصر والنجاح
في الدنيا والآخرة، ولما كانت الأمة متمسكة به ومجتمعة تحت خليفة
واحد، كانت في عزة وكرامة تهابها الأمم ويذل لها الملوك والتاريخ
خير شاهد.. ولما تركت الأمة كتاب ربها تمزقت وتفرقت، فاجتمع
عليها الأعداء، شقت وعاشت في مذلة وضياع.
5-حرمة الربا، لأنه النظام الذي يسحق الفقراء، ويجعل المجتمع
طبقيايمتلئ بالأحقاد والضغائن ويكثر فيه الجرائم ويعرض المجتمع
للحرب مع الله،وأي نصرفي معركة تكون مع الله، فلا يكون إلاالشقاء
والتعاسة، وقلة الخير والبركة، فلا خير من الأرض إلا القليل ولا من
السماء إلا النذر اليسير..
6-التحذير من الشيطان، فإنه يأس من المؤمن لكنه رضي باليسير من
المحقرات التي نظن أنها بسيطة، وهي في الحقيقة مدخل للشيطان إلى
القلب فيفسده ويهلك الإنسان بعد ذلك..
7-شمول الخطبة لأمور الدنيا والآخرة، فهي قد عالجت شئون الحياة
الاجتماعية، من علاقة الأخ بأخيه، والمرأة بزوجها، والأفرادبالمجتمع
والحاكم بالمحكوم، والعبد بربه سبحانه وتعالى، وحذرت من الشيطان،
وبينت أسس الدين ومقاصد الشريعة، وأنهم سوف يلقون ربهم
فيسألهم عن أعمالهم في الآخرة..
8-على الداعية البلاغ وليس عليه النتائج، وهو أمر محسوم من
القرآن { فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ } والنبي - صلى الله عليه وسلم-
يقرر ذلك أن الداعية عليه أن يبذل قصارى جهده ومبلغ طاقته، وجل
وقته، وأكثر ماله، وكل ما يملك، في سبيل دعوته، ولا ينتظر النتيجة
ولا يحاسب عليها هل التزم الناس معه أم لا..
وهكذا كانت هذه الوصايا الجامعة والقيم النافعة تمهد السبيل إلى
الاستقرار الأسري والتوازن الاقتصادي والتكافل الاجتماعي والتعارف
الإنساني، قياما بواجب الدعوة إلى هذا الدين بالتي هي أحسن..
وهكذا قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم حجه ، بعد أن بين
للمسلمين مناسكهم ، وأعلمهم ما فرض الله عليهم في حجهم ، وما
حرم عليهم ، فكانت حجة البلاغ ، وحجة الإسلام ، وحجة الوداع ، ولم
يمكث بعدها أشهرا ًحتى وافاه الأجل ، فصلوات الله وسلامه عليه إلى
يوم الدين.
[/b][/b]
[/font]_________________